لجنة تقصى الحقائق البحرينية ومهمتها الوطنية

Submitted by a.eldariby on جمعة, 08/26/2011 - 18:08

لجنة تقصى الحقائق البحرينية ومهمتها الوطنية

---

أحمد متولى بدوى

باحث فى الشئون السياسية

ليست مبالغة القول أن تشكيل لجنة تقصى الحقائق فى الاحداث التى شهدتها مملكة البحرين خلال شهرى فبراير ومارس الماضيين يشكل نقطة تحول مهمة فى مسيرة الاصلاح التى دشنها العاهل البحرينى الملك حمد بن عيسى آل خليفة منذ توليه مقاليد السلطة فى بداية الالفية الثالثة وطرحه لمشروعه الاصلاحى الذى ارسى معالم الملكية الدستورية وفتح الباب واسعا امام الانتقال بالبحرين الى مصاف الدول الديمقراطية فى هياكلها المؤسسية وسياساتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية, فقد نجح خلال العقد الماضى من ايجاد موطئ قدم متميز للمملكة على خريطة العالم، اكد من خلاله على ان الارادة الشعبية والتصميم الوطنى على الخروج من شرنقة النزاعات والصراعات الداخلية الى رحابة التوافقات الوطنية والبناء المجتمعى هى صمام الامان لبناء دولة عصرية تستطيع ان تتقدم بخطى ثابتة وواثقة نحو المستقبل.

واذا كان من المعلوم ان تشكيل مثل هذه اللجان يمثل الضمانة الاكيدة على كشف الزيف في الادعاءات التى يطلقها هذا الطرف او ذاك، وذلك من خلال فحصها لكافة الادلة والاسانيد والبراهين التى يطرحها اصحابها، فإنه من المعلوم كذلك ان اتخاذ اللجنة لمواقف مسبقة يمثل انتهاكا لقواعد العدالة وسيادة القانون. ولذا، فما شهده مقر لجنة تقصى الحقائق من اعتداءات من جانب بعض الافراد احتجاجا على بعض التصريحات التى ادلى بها رئيسها او احد اعضاءها بشأن نشاطها وطبيعة عملها ومواقفها حيال بعض القضايا التى تناولتها بالدراسة والتحليل، يثير جملة من التساؤلات حول دوافع هؤلاء الافراد ومنطلقاتهم، فهل يريدون من اللجنة ان تأتى لتتبنى وجهة نظرهم بغض النظر عن مدى صحتها او مدى مطابقتها للحقائق على أرض الواقع؟ واذا كان هذا صحيحا فكيف نثق فى تقاريرها وآراءها طالما تاتى موجه من احد الاطراف او مستجيبة لمطالب طرف على حساب طرف اخر؟ فاين الحياد والموضوعية والشفافية التى يطالبون بها اللجنة؟

الحقيقة ان ما شهدته البحرين خلال النصف الثانى من شهر اغسطس حيال بعض الممارسات اللاقانونية تجاه مقر اللجنة والاعتداءات على بعض العاملين بها يؤكد على امرين مهمين: الاول، لا شك ان اسس عمل اللجنة وضوابطها امر متفق عليه ليس فقط بين اللجنة والقيادة السياسية البحرينية وإنما اضحت هذه الضوابط والاسس من الامور البديهية المتعارف عليها والمتفق بشأنها، ويمثل الخروج عليها انتقاصا من مكانة اللجنة ومصداقيتها وصدقية القائمين عليها، ومن اهم الضوابط والاسس التى تحكم عمل لجان تقصى الحقائق: الحياد والموضوعية، وهو ما حرص على تأكيده رئيس لجنة تقصى الحقائق البحرينية الدكتور محمود بسيونى بقوله:" لا أحد فوق القانون... وأن الأطباء والمعلمين والصحفيين ليسوا بمنأى عن المساءلة القانونية، مؤكدا على عالمية هذه الضوابط فى قوله:"وفقاً للسلوك العالمي فإن الطبيب لا يجب أن يمارس أي نشاط سياسي داخل المستشفى لأن عليه فروض مهنية لا يمكنه الخروج عنها قد تؤثر في شخص ينتظر الإنقاذ منه"، فضلا عن ذلك علي اللجنة كذلك ان تتجرد عن الانحيازات فى فحص الادلة وتحليل الاحداث واستقراء الوقائع دون اخفاء او اختلاق وهو ما  اشار إليه رئيس اللجنة بقوله:"أنا لا أستطيع أن أختلق شيئاً، الدليل أمر لي وعلي". الامر الثانى، ليس مقبولا من احد الاطراف ان يسارع بالاعتداء على اللجنة واعضاءها حينما يأتى رأيها او تقريرها لا يتفق وهوى النفس، فالواقع يؤكد انه فى مثل تلك الاحداث يمارس طرفى الازمة بعض التجاوزات التى تمثل خروقات قانونية تستوجب الادانة، فاذا كان صحيحا ان رئيس اللجنة اشار الى ان الوقائع والادلة والبراهين تؤكد على عدم حدوث جرائم ضد الانسانية، فانه لا يعنى ابراء ذمة قوات الامن من بعض التجاوزات القانونية ولكنها تجاوزات لا ترقى الى ما يدعيه الطرف الثانى، وهذه هى مهمة اللجنة فى كشف الحقائق ووضع الامور فى نصابها القانونى الصحيح دون تهاويل او تهوين، وهو ما أشار اليه رئيس اللجنة بقوله :"إن الجرائم ضد الإنسانية تحتاج إلى عنصرين لتأكيدها وإثباتها هما عنصر المنهجية وعنصر السياسة ..... وحتى الآن لم أجد أية أدلة تثبت ذلك في البحرين". وعلى الجانب الاخر، تستوجب الموضوعية كشف التجاوزات التى ارتكبها البعض فى حق هذه القوات كما اشار الي ذلك رئيس اللجنة بقوله:" أن اللجنة ستتحقق من جميع ما حدث في الفترة من فبراير وحتى مارس وما لحقها من تبعات، بما في ذلك تعرض رجال الأمن للاعتداء والقتل، والتعذيب وقتل العمالة الآسيوية"، وهذا هو التوازن فى الرؤية والانصاف فى اجلاء الحقائق.

وعلى هذا، يمكن الاشارة الى ثلاثة امور مهمة تكشف عن عمق الفجوة التى ما زال يعانيها بعض افراد الشعب البحرينى من المهوسين بالمذهبية والطائفية متناسين ان الاوطان تسكن فى الانسان قبل ان يسكنها، وان الانتماء الوطنى يجب ان تكون له الغلبة على كافة الانتماءات الفئوية او الطائفية او المذهبية، سعيا الى بناء مجتمع الوحدة الوطنية الذى يحمي حقوق الجميع وحرياتهم ويحقق طموحاتهم وتطلعاتهم، وذلك على النحو التالى:

الاول، مما لا شك فيه ان الامر الملكى بتشكيل لجنة مستقلة لتقصى الحقائق لم يكن هدفه اسكات الاصوات او اضافة وجاهة او مسحة ديمقراطية على النظام الحاكم، وإنما كان الهدف الرئيسى منها هو اجلاء الحقيقة وكشف زيف الادعاءات وبطلان الافتراءات التى اطلقها البعض حيال الاحداث المأسوية التى حيكت للمملكة فى جنح الليل المظلم.

الثانى، ان الاستمرار بعض وسائل الاعلام الدولى والاقليمى الموجه فى سكب مزيد من الزيت على بعض قطع النيران التى ما زالت كامنة تحت الرماد يؤكد على سوء النيات وخبث المقاصد ودهاء السياسات التى تتبناها هذه الوسائل ضد استقرار المملكة وامن مواطنيها لتنفيذ اجندات خاصة اقليمية او دولية تستهدف السيطرة على مقدرات البلاد ومكتسبات ابناءها املا فى العودة بعقارب الساعة الى الوراء.

الثالث، جاءت ردود الفعل الرسمية المتسمة بالتوازن والهدوء والعقلانية سواء من جانب القيادة السياسية البحرينية او الحكومة والمسئولين على مثل هذه الافتراءات والادعاءات، لتفويت الفرصة على اصحاب الاجندات الخاصة الساعين الى عرقلة مسيرة الاصلاح والتنمية التى انتهجها المملكة وحققت بفضلها مكانة متميزة بين الامم.

خلاصة القول ان بناء الاوطان وإن استلزم تكاتف الجهود واخلاصها، إلا ان اتساع العقول وفهمها يظل الشرط الاول فى نهوضها وتقدمها ورفاهيتها، وهو ما يجب ان يستوعبه الجميع إن ارادوا العيش المشترك والتقدم المزدهر والرفاه المنشودة.