باب معرفة الأصل في حساب الأزمنة

الزمان ينقسم عند جميع الأمم بأربعة أقسام :

القسم الأوّل منها يسمّى ساعة ، والثاني يسمّى يوما ، والثالث يسمّى شهرا ، والرابع يسمّى سنة.

فأمّا الساعة فهي جرذ من أربعة وعشرين جزءا من الزمان الجامع الليل والنهار جميعا.

وأمّا اليوم فيستعمل على وجهين : أحدهما أن يجعل اسما للنهار خاصة. والوجه الآخر أن يكون اليوم اسما للمدّة الجامعة للزمانين جميعا ، أعني الليل والنهار.

ويختلف في ابتدائه (١). فأمّا العرب فابتداء اليوم عندهم من غروب الشمس ، وانقضاؤه عند غروبها مرة ثانية. وأمّا العجم فابتداء اليوم عندهم من طلوع الشمس إلى طلوعها مرة أخرى.

واليوم قسمان : ليل ونهار. وهما يتساويان في المقدار تارة ويختلفان أخرى. فإذا كانت الشمس في أوّل الحمل أو في الميزان كانا متساويين (٢). وإذا كانت الشمس في نصف الفلك الشمالي ، وهو من الحمل إلى آخر السّنبلة ، وهو من الميزان إلى آخر الحوت ، كانت مدّة الليل أطول.

__________________

(١) أنظر القانون المسعودي ٦٣ ، ٦٤.

(٢) ويكون هذا في الانقلابين الربيعي والخريفي. تحل الشمس بأول برج الحمل فيكون الانقلاب الربيعي ، ويتساوى الليل والنهار. وحين تحل الشمس بأول برج الميزان يكون الانقلاب الخريفي ، ويتساوى الليل والنهار أيضا.

 

وأمّا الشهر فاختلف حساب الامم فيه (١). فمنهم من يجعل الشهر مدّة مسير القمر من حين يفارق الشمس إلى أن يفارقها مرة أخرى (٢). وذلك تسعة وعشرون يوما ، ونصف يوم ، وثلثا ساعة على التقريب ، إلّا أنّ إثبات هذا الكسر غير ممكن ، فأسقطوه من بعض شهورهم ، وأكملوا في بعضها يوما. فصار بعض شهورهم ثلاثين يوما ، وبعضها تسعة وعشرين يوما لا غير. وهذا مذهب العرب والعبرانيين من العجم واليونانيين (٣).

ومنهم من لا يعتبر مسير القمر ، ويبني حسابه على مسير الشمس (٤) بمقدار برج من بروج الفلك. وذلك ثلاثون يوما ، وثلث يوم ، وسدس يوم على التقريب. وهذا مذهب الروم والسّريانيين والقبط (٥).

وأمّا السّنة فهي المدّة الجامعة للفصول الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء. ومقدارها عند الروح والسّريانيين اثنا عشر شهرا شمسية ، قد أكمل الكسر في بعضها فصار أحدا وثلاثين يوما ، وأسقط من بعضها فصار ثلاثين يوما لا غير. ومقدارها عند القبط اثنا عشر شهرا شمسية ، قد أسقط الكسر من جميعها ، فصار كلّ شهر منها ثلاثين يوما ؛ ويزيدون على ذلك خمسة أيام تسمّى (٦) النّسيء (٧) عوضا من الكسور التي أسقطت من كلّ شهر.

__________________

(١) في الأصل المخطوط : الأمة ، وهو غلط.

(٢) أنظر القانون المسعودي ٦٧ ـ ٦٨.

(٣) المصدر نفسه ٦٩.

(٤) أنظر القانون المسعودي ٦٧ ـ ٦٨.

(٥) المصدر نفسه ٦٩.

(٦) في الأصل المخطوط : يسمى ، وهو غلط.

(٧) يريد المؤلف بالنسيء هاهنا كبس الأيام الخمسة التي تزيد عن شهور سنة القبط وإلحاقها سنتهم. وكانوا يلحقونها في كل سنة بعد شهر مسرى ، وهو آخر شهور سنتهم ، ويسمون ذلك (أبو غمنا) أي الشهر الصغير. وكانوا يكبسون أرباع اليون الزائدة في كل أربع سنين. فيكون (أبو غمنا) ستة أيام كل أربع سنوات.

(أنظر لذلك الآثار الباقية ٤٩ ـ ٥٠ ، والقانون المسعودي ٧٦).

 

ومقدار السّنة عند العرب اثنا عشر شهرا قمرية. وكذلك هي عند العبرانيين واليونانين. إلّا أن هؤلاء يزيدون في كلّ ثلاث سنين من سنيهم شهرا ، فتكون الثالثة من سنيهم أبدا ثلاثة عشر شهرا قمرية يسمّونها الكبيسة. وربما كانت زيادتهم لهذا الشهر في مد سنتين ، لأنهم يفعلون ذلك في كلّ تسعة عشر سنة تسع مرات (١). يفعلون ذلك في السّنة الثالثة من هذا الدور ، وفي السنة السادسة منه ، وفي السّنة الثامنة منه ، وفي السّنة الحادية عشرة ، وفي السنة الرابعة عشرة ، وفي السنة السابعة عشرة وفي السّنة (٢) التاسعة عشرة ، وهي آخر الدّور ، ثم يبتدئون دورا ثانيا ، فيفعلون فيه كما فعلوا في الدّور الذي قبله. وهذا الدّور هو الذي يسمّى بلغة الروم فيلبس (٣).

وإنما فعلوا ذلك ليستوي لهم حساب القمر مع حساب الشمس ، فتكون شهورهم ثابتة (٤) في الأزمنة غير منتقلة عن أوقاتها من الفصول الأربعة. وذلك أن السّنة إذا جعلت اثني عشر شهرا قمريّة كانت أنقص من السّنة الشمسية بأحد عشر (٥) يوما على التقريب ، فتصير شهورها لأجل ذلك دائرة في الفصول الأربعة ، غير مستقرة فيها ، يكون الشهر منها في زمن شدّة البرد ، ثم يرى بعد ذلك في زمن شدّة الحرّ.

__________________

(١) أنظر تفصيل ذلك وإيضاحه في الآثار الباقية ٥٣ ـ ٥٥.

(٢) في الأصل المخطوط : سنة ، وهو غلط.

(٣) في الأصل المخطوط : القنقلس ، ولم أدر ما هو ولم أجده في المظان التي رجعت إليها ، وأغلب الظن أنه غلط ، صوابه ما أثبتناه ، وأخذناه عن القانون المسعودي ٩٣ لأبي الريحان البيروني.

قال البيروني : «... فيسمي اليهود دور التسعة عشر محزورا. وكل دور من الأدوار المنسوبة إلى فيلبس وشيعته المذكورة في تاريخ المجسطي يشتمل على أربعة محازير فيكون سنوها ستا وسبعين ...»

وفيلبس هذا هو ملك مقدونية على الأغلب ، وهو أبو الإسكندر الكبير المقدوني.

(٤) في الأصل المخطوط : تانية ، وهو تصحيف.

(٥) في الأصل المخطوط : بإحدى عشرة ، وهو غلط

 

وقد كانت العرب في الجاهلية تفعل مثل هذا ، وتزيد في كل ثالثة من سنيها شهرا (١) ، على نحو ما ذكرناه عن العبرانيين واليونانيين.

وكانوا يسمّون ذلك النّسيء. وكانت سنة النّسيء ثلاثة عشر شهرا قمريّة. وكانت شهورهم حينئذ غير دائرة في الأزمنة ، كان لكلّ (٢) شهر منها زمن معلوم لا يعدوه. فهذا كان فعل الجاهلية حين أحدثوا النّسيء ، وعملوا به. فلما جاء الله تعالى بالإسلام بطل ذلك ، وحرم العمل به ، فقال : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ)(٣). وقال عزوجل (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ)(٤). فسنة العرب اليوم اثنا عشر شهرا قمريّة دائرة في الأزمنة الأربعة.

__________________

(١) أشار إلى ذلك أبو الريحان البيروني في الآثار الباقية ٦٢ وأوضحه ، قال «وكانوا في الجاهلية يستعملونها على نحو ما يستعمله أهل الإسلام (أي الشهور). وكان يدور حجهم في الأزمنة الأربعة. ثم أرادوا أن يحجوا في وقت إدراك سلعهم من الأدم والجلود والثمار وغير ذلك ، وأن يثبت ذلك على حالة واحدة ، وفي أطيب الأزمنة وأخصبها. فتعلموا الكبس من اليهود المجاورين لهم (أي في يثرب كما ذكر في القانون المسعودي). وذلك قبل الهجرة بقريب من مائتي سنة. فأخذوا يعملون بها ما يشاكل فعل اليهود من إلحاق فضل ما بين سنتهم وسنة الشمس شهرا بشهورها إذا تم .. ويسمون هذا من فعلهم النسيء ، لأنهم كان ينسئون أول السنة في كل ستين أو ثلاث شهرا ، على حسب ما يستحقه التقدم». وانظر أيضا الآثار الباقية ١١ ـ ١٢ ، ٣٢٥ ، والقانون المسعودي ٩٢ ، ١٣١ والتفسير الكبير لفخر الدين الرازي ٤ / ٤٤٧.

هذا وقد أنكر المستشرق الأستاذ كرلونلين الإيطالي مسألة النسيء بمعنى كبس الشهور عند العرب لموافقة السنة الشمسية ، وناقش الآراء والروايات الوارد بذلك ، وردها كلها. ومنها آراء أبي الريحان البيروني ، في كتابه «علم الفلك ، تاريخه عند العرب في القرون الوسطى»

وقال نلينو : (ص ٩٢ ـ ٩٣) «فلا مرية أن هذه الأخبار بوجود الكبس وكيفيته عند عرب الجاهلية جميعها من باب مجرد الظن والتخمين ، ذهب إليه الفلكيون في عهد لم يقف فيه أحد على حقيقة النسيء. وقال أيضا في آخر كلامه على هذا الموضوع (ص ١٠٤): «فاتضح مما تقدم أن معرفة حقيقة النسيء قد اندرست تماما نحو منتصف القرن الأول للهجرة ، كما اندرست معرفة غيره من آثار الجاهلية».

وانظر الصفحات ٨٧ ـ ١٠٤ من كتاب نلينو المذكور ، ففيه تفصيل وبيان يحسن الاطلاع عليهما :

(٢) في الأصل المخطوط : كل ، وهو غلط.

(٣) تمام الآية : (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ، يُحِلُّونَهُ عاماً ، وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً ، لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ ، فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ ...) سورة التوبة ٩ / ٣٧.

(٤) تمام الآية : «..... فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ ٩ أَنْفُسَكُمْ ...» سورة التوبة ٩ / ٣٦.