التشريع الاسلامي أو الفقه

في التوراة والانجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، وأولئك هم المفلحون) (1) .
الغاية منها:
والغاية التي ترمي إليها رسالة الاسلام، تزكية الانفس وتطهيرها عن طريق المعرفة بالله وعبادته، وتدعيم الروابط الانسانية وإقامتها على أساس الحب والرحمة والاخاء والمساواة والعدل، وبذلك يسعد الانسان في الدنيا
والاخرة، قال الله سبحانه (هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (2) وقال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (3)) .
وفي الحديث: (أنا رحمة مهداة) .
التشريع الاسلامي أو الفقه:
والتشريع الاسلامي ناحية من النواحي الهامة التي انتظمتها رسالة الاسلام، والتي تمثل الناحية العملية من هذه الرسالة.
ولم يكن التشريع الديني المحض - كأحكام العبادات - يصدر إلا عن وحي الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، من كتاب أو سنة، أو بما يقره عليه من اجتهاد.
وكانت مهمة الرسول لا تتجاوز دائرة التبليغ والتبيين (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى) (4) .

(1) سورة الاعراف. بعض آية 156 وآية 157.
(2) سورة الجمعة الاية 2.
(3) سورة الانبياء الاية 107.
(4) سورة النجم الايتان 3، 4.

أما التشريع الذي يتصل بالامور الدنيوية، ومن قضائية وسياسية وحربية، فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمشاورة فيها، وكان يرى الرأي فيرجع عنه لرأي أصحابه، كما وقع في غزوة بدر وأحد، وكان الصحابة رضي الله عنهم يرجعون إليه صلى الله عليه وسلم يسألونه عما لم يعلموه، ويستفسرونه فيما خفي عليهم من معاني النصوص، ويعرضون عليه ما فهموه منها، فكان أحيانا يقرهم على فهمهم، وأحيانا يبين لهم موضع الخطأ فيما ذهبوا إليه.
والقواعد العامة التي وضعها الاسلام، ليسير على ضوئها المسلمون هي:
1 - النهي عن ال فيما لم يقع من الحوادث حتى يقع، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم عفا الله عنها، والله غفور حليم) (1) وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن الاغلوطات، وهي المسائل التي لم تقع.
2 - تجنب كثرة السؤال وعضل المسائل، ففي الحديث: (إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال، وإضاعة المال) وعنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا توا عنها) وعنه أيضا: (أعظم الناس جرما، من سأل عن شئ لم يحرم فحرم من أجل مسألته) .
3 - البعد عن الاختلاف والتفرق في الدين، قال الله تعالى: (وأن هذه أمتكم أمة واحدة) (2) وقال تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (3)) .
وقال تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) (4) وقال تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ (5)

(1) سورة المائدة آية: 101.
(2) سورة المؤمنون آية: 52.
(3) سورة آل عمران آية: 103.
(4) سورة الانفال آية: 46.
(5) سورة الانعام آية: 159.

وقال تعالى: (وكانوا شيعا) (1) وقال تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم) (2) .
4 - رد المسائل المتنازع فيها إلى الكتاب والسنة. عملا بقول الله تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول (3)) وقوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) (4) وذلك لان الدين قد فصله الكتاب، كما قال الله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) (5) وقال تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (6) وبينته السنة العملية، قال الله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم (7)) .
وقال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) (8) وبذلك تم أمره، ووضحت معالمه، قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الاسلام دينا) (9) .
وما دامت المسائل الدينية قد بينت على هذا النحو، وما دام الاصل الذي يرجع إليه عند التحاكم معلوما، فلا معنى للاختلاف ولا مجال له، قال الله تعالى: (وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) (10) وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (11) على ضوء هذه القواعد، سار الصحابة ومن بعدهم من القرون المشهود لها بالخير، ولم يقع بينهم اختلاف، إلا في مسائل معدودة، كان مرجعه التفاوت في فهم النصوص وأن بعضهم كان يعلم منها ما يخفي على البعض الاخر.

(1) سورة الروم آية: 32.
(2) سورة آل عمران آية 105.
(3) سورة النساء آية: 59.
(4) سورة الشورى آية: 100 (5) سورة النحل آية: 89.
(6) سورة الانعام آية: 38.
(7) سورة النحل آية: 44.
(8) سورة النساء آية: 105.
(9) سورة المائدة آية: 3.
(10) سورة النساء آية: 105.
(11) سورة النساء آية: 66.

فلما جاء أئمة المذاهب الاربعة تبعوا سنن من قبلهم، إلا أن بعضهم كان أقرب إلى السنة، كالحجازيين الذين كثر فيهم حملة السنة ورواة الاثار، والبعض الاخر كان أقرب إلى الرأي كالعراقيين الذين قل فيهم حفظة الحديث) لتنائي ديارهم عن منزل الوحي.
بذل هؤلاء الائمة أقصى ما في وسعهم في تعريف الناس بهذا الدين وهدايتهم به، وكانوا ينهون عن تقليدهم ويقولون: لا يجوز لاحد أن يقول قولنا من غير أن يعرف دليلنا، صرحوا أن مذهبهم هو الحديث الصحيح، لانهم لم يكونوا يقصدون أن يقلدوا كالمعصوم صلى الله عليه وسلم، بل كان كل قصدهم أن يعينوا الناس على فهم أحكام الله.
إلا أن الناس بعدهم قد فترت هممهم، وضعفت عزائمهم وتحركت فيهم غريزة المحاكاة والتقليد، فاكتفى كل جماعة منهم بمذهب معين ينظر فيه، ويعول عليه، ويتعصب له، ويبذل كل ما أوتي من قوة في نصرته، وينزل قول إمامه منزلة قول الشارع، ولا يستجيز لنفسه أن يفتي في مسألة بما يخالف ما استنبطه إمامه، وقد بلغ الغلو في الثقة بهؤلاء الائمة حتى قال الكرخي: كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ.
وبالتقليد والتعصب للمذاهب فقدت الامة الهداية بالكتاب والسنة، وحدث القول بانسداد باب الاجتهاد، وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء، وأقوال الفقهاء هي الشريعة، واعتبر كل ما يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعا لا يوثق بأقواله، ولا يعتد بفتاويه.
وكان مما ساعد على انتشار هذه الروح الرجعية، ما قام به الحكام والاغنياء من إنشاء المدارس، وقصر التدريس فيها على مذهب أو مذاهب معينة، فكان ذلك من أسباب الاقبال على تلك المذاهب، والانصراف عن الاجتهاد، محافظة على الارزاق التي رتبت لهم! سأل أبو زرعة شيخه البلقيني قائلا: ما تقصير الشيخ تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته؟ فسكت البلقيني، فقال أبو زرعة: فما عندي أن الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي قدرت للفقهاء على المذاهب الاربعة وأن من خرج عن ذلك لم ينله شئ من ذلك، وحرم

ولاية القضاء، وامتنع الناس عن إفتائه، ونسبت إليه البدعة فابتسم البلقيني ووافقه على ذلك.
وبالعكوف على التقليد، وفقد الهداية بالكتاب والسنة، والقول بانسداد باب الاجتهاد وقعت الامة في شر وبلاء ودخلت في جحر الضب الذي حذرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان من آثار ذلك أن اختلف الامة شيعا وأحزابا، حتى إنهم اختلفوا في حكم تزوج الحنفية بالشافعي، فقال بعضهم: لا يصح، لانها تشك (1) في إيمانها، وقال آخرون، يصح قياسا على الذمية، كما كان من آثار ذلك انتشار البدع، واختفاء معالم السنن، وخمود الحركة العقلية، ووقف النشاط الفكري) ، وضياع الاستقلال العلمي، الامر الذي أدى إلى ضعف شخصية الامة، وأفقدها الحياة المنتجة، وقعد بها عن السير والنهوض، ووجد الدخلاء بذلك ثغرات ينفذون منها إلى صميم الاسلام.
مرت السنون، وانقضت القرون، وفي كل حين يبعث الله لهذه الامة من يجدد لها دينها، ويوقظها من سباتها، ويوجهها الوجهة الصالحة، إلا أنها لا تكاد تستيقظ حتى تعود إلى ما كانت عليه، أو أشد مما كانت.
وأخيرا انتهى الامر بالتشريع الاسلامي، الذي نظم الله به حياة الناس جميعا، وجعله سلاحا لمعاشهم ومعادهم، إلى دركة لم يسبق لها مثيل، ونزل إلى هوة سحيقة، وأصبح الاشتغال به مفسدة للعقل والقلب، ومضيعة للزمن، لا يفيد في دين الله، ولا ينظم من حياة الناس.
وهذا مثال لما كتبه بعض الفقهاء المتأخرين: عرف ابن عرفة الاجارة فقال، بيع منفعة ما أمكن نقله، غير سفينة ولا حيوان، لا يعقل بعوض غير ناشئ عنها، بعضه يتبعض بتبعيضها.
فاعترض عليه أحد تلاميذه، بأن كلمة بعض تنافي الاختصار، وأنه لا ضرورة لذكرها، فتوقف الشيخ يومين، ثم أجاب بما لا طائل تحته.

(1) لان الشافعية يجوزون أن يقول المسلم: أنا مؤمن إن شاء الله.

وقف التشريع عند هذا الحد ووقف العلماء لا يستظهرون غير المتون، ولا يعرفون غير الحواشي وما فيها من إيرادات واعتراضات وألغاز، وما كتب عليها من تقريرات، حتى وثبت أورويا على الشرق تصفعه بيدها، وتركله رجلها.
فكان أن تيقظ على هذه الضربات، وتلفت ذات اليمين وذات الشمال.
إذا هو متخلف عن ركب الحياة الزاحف، وقاعد بينما القافلة تسير.
وإذا هو أمام عالم جديد، كله الحياة والقوة والانتاج، فراعه ما رأى، وبهره ما شاهد، فصاح الذين تنكروا لتاريخهم وعقوا آباءهم، ونسوا دينهم وتقاليدهم: أن ها هي ذي أوروبا يا معشر الشرقيين، فاسلكوا سبيلها، وقلدوها في خيرها وشرها، وإيمانها وكفرها، وحلوها ومرها، ووقف الجامدون موقفا سلبيا، يكثرون من الحوقلة والترجيع، وانطووا على أنفسهم، ولزموا بيوتهم، فكان هذا برهانا آخر على أن شريعة الاسلام لدى المغرورين لا تجاري التطور، ولا تتمشى مع الزمن.
ثم كانت النتيجة الحتمية، أن كان التشريع الاجنبي الدخيل هو الذي يهيمن على الحياة الشرقية، مع منافاته لدينها وعاداتها وتقاليدها وأن كانت الاوضاع الاوروبية هي التي تغزو البيوت والشوارع والمنتديات والمدارس والمعاهد، وأخذت موجتها تقوى وتتغلب على كل ناحية من النواحي حتى كاد الشرق ينسى دينه وتقاليده ويقطع الصلة بين حاضره وماضيه، إلا أن الارض لا تخلو من قائم لله بحجة، فهب دعاة الاصلاح يهيبون بهؤلاء المخدوعين بالغربيين، أن: خذوا حذركم، وكفوا عن دعايتكم، فإن ما عليه الغربيون من فساد الاخلاق لابد وأن ينتهي بهم إلى العاقبة السوآى، وأنهم ما لم يصلحوا فطرهم بالايمان الصحيح ويعدلوا طباعهم بالمثل العليا من الاخلاق، فسوف تنقلب علومهم أداة تخريب وتدمير، وتتحول مدنيتهم إلى نار تلتهمهم وتقضي عليهم القضاء الاخير (ألم تر كيف فعل ربك بعاد؟ إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الاوتاد.
الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد. فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد) (1) .
ويصيحون بهؤلاء الجامدين دونكم لنبع الصافي،

(1) سورة الفجر من آية: 6 - 14.

والهدى الكريم: لنبع الكتاب وهدى السنة، خذوا منهما دينكم وبشروا بهما غيركم، فعند ذلك تهتدي بكم هذه الدنيا الحائرة، وتسعد بكم هذه الانسانية المعذبة (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا) (1) .
وكان من فضل الله أن استجاب لهذه الدعوة رجال بررة، وتلقتها قلوب
مخلصة، واعتنقها شباب وهبها أعز ما يملك من الاموال والانفس.
فهل أذن الله لنوره أن يشرق على الارض من جديد؟ وهل أراد للانسان أن يحيا حياة طيبة، يسودها الايمان والحب والاحسان والعدل؟ هذا ما تشهد به الايات: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا) (2) .
(سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد؟) (3) .

(1) سورة الاحزاب آية: 21.
(2) سورة الفتح آية: 28.
(3) سورة فصلت آية: 53.