اللعان

اللعان:

تعريفه: اللعان مأخوذ من اللعن، لان الملاعن يقول في الخامسة: " أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ".
وقيل هو الابعاد.
وسمي المتلاعنان بذلك، لما يعقب اللعان من الاثم والابعاد، ولان أحدهما كاذب، فيكون ملعونا.
وقيل: لان كل واحد منهما يبعد عن صاحبه بتأييد التحريم.
وحقيقته: أن يحلف الرجل - إذا رمى امرأته بالزنا أربع مرات إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وأن تحلف المرأة عند تكذيبه أربع مرات، إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن عليها غضب الله إن كان من الصادقين.
مشروعيته: إذا رمى الرجل امرأته بالزنا، ولم تقر هي بذلك، ولم يرجع عنه رميه.
فقد شرع الله لهما اللعان (1) .
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن هلال (2) بن أمية قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " البينة، أو حد في ظهرك.
فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟!.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " البينة، وإلا حد في ظهرك ".
فقال: والذي بعثك بالحق إلي لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهرى من

(1) كان ذلك في شهر شعبان سنة 59 هـ وقيل: كان في السنة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) كان أول رجل لا عن في الاسلام.

الحد، فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين.
والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين.
والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " (1) .
فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يعلم (2) أن أحد كما كاذب.
فهل منكما تائب؟ " فشهدت.
فلما كانت عند الخامسة وقفوها (3) ، وقالوا إنها الموجبة (4) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فتلكأت ونكصت، حتى ظننا أنها ترجع.
ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين (5) ، سابغ الاليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء ".
فجاءت به كذلك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لولا ما مضى (6) من كتاب الله كان لي ولها شأن.
" قال صاحب بداية المجتهد: وأما من طريق المعنى.
فلما كان الفراش
موجبا للحوق النسب، كان للناس ضرورة إلى طريق ينفونه به إذا تحققوا فساده.
وتلك الطريق هي اللعان.
فاللعان حكم ثابت بالكتاب والسنة والقياس والاجماع.
إذ لا خلاف في ذلك عامة.

(1) سورة النور: الايات 6 - 9 (2) هذا دليل على أن الزوج إذا قذف امرأته، وعجز عن إقامة البينة وجب عليه حد القاذف، وإذا وقع اللعان سقط الحد عنه.
(3) فيه استحباب تقديم الوعظ للزوجين قبل اللعان لما سيأتي.
(4) أشاروا عليها بالوقوف عن تمام اللعان فتلكأت وكادت تعترف ولكنها لم ترض بفضيحة قومها.
وفي هذا دليل على أن مجرد التلكؤ لا يعمل به.
(5) في هذا دليل على أن المرأة كانت حاملا وقت اللعان، والاكحل الذي أجفانه سوداء كأن فيها كحلا.
وسابغ الاليتين: أي عظيمهما، وخدلج: ممتلئ.
(6) لولا ما مضى من كتاب الله، أي أن اللعان يرفع الحد عن المرأة.
ولولا ذلك لاقام الرسول صلى الله عليه وسلم الحد.

متى يكون اللعان؟ ويكون اللعان في صورتين: (الصورة الاولى) أن يرمي الرجل امرأته بالزنا، ولم يكن له أربعة شهود يشهدون عليها بما رماها به.
(الصورة الثانية) أن ينفي حملها منه.
وإنما يجوز في الصورة الاول إذا تحقق من زناها، كأن رآها تزني، أو أقرت هي، ووقع في نفسه صدقها.
والاولى في هذه الحال أن يطلقها ولا يلاعنها.
فإذا لم يتحقق من زناها، فإنه لا يجوز له أن يرميها به.
ويكون نفي الحمل في حالة ما إذا ادعى أنه لم يطأها أصلا من حين العقد عليها، أو ادعى أنها أتت به لاقل من ستة أشهر بعد الوطء، أو لاكثر من سنة من وقت الوطء..الحاكم هو الذي يقضى باللعان: ولا بد من الحاكم عند اللعان.
وينبغي له أن يذكر المرأة ويعظها، بمثل ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم: " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شئ، ولن يدخلها الله الجنة، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الاولين والاخرين ".
اشتراط العقل والبلوغ:
وكما يشترط في اللعان، الحاكم، يشترط العقل والبلوغ في كل من المتلاعنين، وهذا أمر مجمع عليه.
اللعان بعد إقامة الشهود: وإذا أقام الزوج الشهود على الزنا فهل له أن يلاعن؟

قال أبو حنيفة وداود: لا يلاعن، لان اللعان إنما جعل عوضا عن الشهود، لقوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم (1) ".
وقال مالك والشافعي: له أن يلاعن، لان الشهود لا تأثير لهم في دفع الفراش.
هل اللعان يمين أم شهادة؟ يرى الامام مالك والشافعي وجمهور العلماء أن اللعان يمين، وإن كان يسمى شهادة فإن أحدا لا يشهد لنفسه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات حديث ابن عباس: " لولا الايمان لكان لي ولها شأن ".
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه شهادة، واستدلوا بقول الله تعالى " فشهادة أحد هم أربع شهادات بالله " وبحديث ابن عباس المتقدم.
وفيه: " فجاء هلال فشهد، ثم قامت فشهدت ".
والذين رأوا أنه يمين، قالوا: انه يصح اللعان بين كل زوجين حرين كانا أو عبدين، أو أحدهما، أو عدلين، أو فاسقين، أو أحدهما.
والذين ذهبوا إلى أنه شهادة.
قالوا: لا يصح إلا بين زوجين يكونان من أهل الشهادة، وذلك بأن يكونا حرين مسلمين.
فأما العبدان، أو المحدودان في القذف، فلا يجوم لعانهما.
وكذلك إن كان أحدهما من أهل الشهادة والاخر ليس من أهلها.
قال ابن القيم: والصحيح أن لعانهم يجمع الوصفين اليمين والشهادة، فهو شهادة مؤكدة بالقسم والتكرار، ويمين مغلظة بلفظ الشهادة والتكرار، لاقتضاء الحال تأكيد الامر، ولهذا اعتبر فيه من التأكيد عشرة أنواع: (أحدها) ذكر لفظ الشهادة.
(الثاني) ذكر القسم أسماء الرب سبحانه، وأجمعها لمعاني أسمائه الحسنى، وهو اسم الله جل ذكره.
(الثالث) تأكيد الجواب بما يؤكد به المقسم عليه من أن واللام،

سورة النور آية 6.

وإتيانه باسم الفاعل الذي هو صادق وكاذب، دون الفعل الذي هو صدق وكذب.
(الرابع) تكرار ذلك أربع مرات.
(الخامس) دعاؤه على نفسه في الخامسة بلعنة الله إن كان من الكاذبين.
(السادس) إخباره عند الخامسة أنها الموجبة لعذاب الله وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاخرة.
(السابع) جعل لعانه مقتضى لحصول العذاب عليها، وهو إما الحد أو الحبس، وجعل لعانها دارئا للعذاب عنها.
(الثامن) أن هذا اللعان يوجب العذاب على أحدهما، إما في الدنيا، وإما في الاخرة.
(التاسع) التفريق بين المتلاعنين وخراب بيتهما وكسرهما بالفراق.
(العاشر) تأييد تلك الفرقة ودوام التحريم بينهما.
فلما كان شأن هذا اللعان هذا الشأن جعل يمينا مقرونا بالشهادة، وشهادة مقرونة باليمين، وجعل الملتعن - لقبول قوله - كالشاهد فإن نكلت المرأة مضت شهادته وحدت وأفادت شهادته.
ويمينه شيئين: سقوط الحد عنه ووجوبه عليها، وإن التعنت الممرأة وعارضت لعانه بلعان آخر منها، أفاد لعانه سقوط الحد عنه دون وجوبه عليها، فكان شهادة ويمينا بالنسبة إليها دونها، لانه إن كان يمينا محضة، فهي لا تحد بمجرد حلفه، وإن كان شهادة فلا تحد بمجرد شهادته عليها وحده، فإذا انضم إلى ذلك نكولها قوي جانب الشهادة واليمين في حقه بتأكده ونكولها، فكان دليلا " ظاهرا على صدقه، فأسقط الحد عنه وأوجبه عليها، وهذا أحسن ما يكون من الحكم.
" ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " (1) وقد ظهر بهذا أنه يمين فيها معنى الشهادة، وشهادة فيها معنى اليمين.

(1) سورة المائدة آية 50

لعان الاعمى والاخرس: لم يختلف أحد في جواز لعان الاعمى، واختلفوا في الاخرس.
فقال مالك والشافعي: يلاعن الاخرس إذا فهم عنه.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يلاعن، لانه ليس من أهل الشهادة.
من يبدأ بالملاعنة؟: اتفق العلماء على أن السنة في اللعان تقديم الرجل فيشهد قبل المرأة.
فقال الشافعي وغيره: هو واجب، فإذا لاعنت المرأة قبله، فإن لعانها لا يعتد به.
وحجتهم أن اللعان يشرع لدفع الحد عن الرجل.
فلو بدئ بالمرأة لكان دفعا لامر لم يثبت.
وذهب أبو حنيفة ومالك: إلى أنه لو وقع الابتداء بالمرأة صح واعتد به.
وحجتهم أن الله سبحانه عطف في القرآن بالواو، والواو لا تقتضي الترتيب بل هي المطلق الجمع.
النكول (1) عن اللعان: النكول عن اللعان، إما أن يكون من الزوج أو من الزوجة، فإن نكل الزوج فعليه حد القذف.
لقول الله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (2) ".
فإذا لم يشهد فهو مثل الاجنبي في القذف، ولما تقدم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " البينة أو حد في ظهرك " وهذا مذهب الائمة الثلاثة.
وقال أبو حنيفة: لا حد عليه.
ويحبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه.
فإن كذب نفسه وجب عليه حد القذف.
فإذا نكلت الزوجة: أقيم عليها حد الزنا عند مالك والشافعي.

(1) النكول: الامتناع.
(2) سورة النور آية 6.

وقال أبو حنيفة: لا تحد، وحبست حتى تلاعن أن تقر بالزنا، وإن صدقته أقيم عليها الحد.
واستدل أبو حنيفة رضي الله عنه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفس بغير نفس ".
ولان سفك الدماء بالنكول حكم ترده الاصول، فإنه إذا كان كثير من الفقهاء لا يوجبون غرم المال بالنكول.
فكان بالاحرى ألا يجب بذلك سفك الدماء.
قال ابن رشد: وبالجملة.
فقاعدة الدماء مبناها في الشرع على أنها لا تراق إلا بالبينة العادلة، بالاعتراف، ومن الواجب ألا تخصص هذه القاعدة بالاسم المشترك.
فأبو حنيفة في هذه المسألة أولى بالصواب إن شاء الله.
وقد اعترف أبو المعالي في كتابه " البرهان " بقوة أبي حنيفة في هذه المسألة، وهو شافعي.
التفريق بين المتلاعنين: إذا تلاعن الزوجان وقعت الفرقة بينهما على سبيل التأكيد ولا يرتفع التحريم بينهما بحال.
فعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا ".
وعن علي وابن مسعود قالا: " مضت السنة ألا يجتمع المتلاعنان ".
رواهما الدارقطني.
ولانه قد وقع بينهما من التباغض والتقاطع ما أوجب القطيعة بينهما بصفة دائمة، لان أساس الحياة الزوجية السكن، والمودة، والرحمة، وهؤلاء قد فقدوا هذا الاساس، وكانت عقوبتهما الفرقة المؤبدة.
واختلف الفقهاء فيما إذا كذب الرجل نفسه، فقال الجمهور: إنما لا يجتمعان أبدا، وللاحاديث السابقة، وقال أبو حنيفة: إذا كذب نفسه جلد الحد، وجاز له أن يعقد عليها من جديد، واستدل أبو حنيفة بأنه إذا كذب

نفسه، فقد بطل حكم اللعان، فكما يلحق به الولد، كذلك ترد الزوجة عليه، وذلك أن السبب الموجب للتحريم إنما هو الجهل بتعيين صدق أحدهما.
مع القطع بأن أحدهما كاذب، وإذا انكشف ارتفع التحريم.
متى تقع الفرقة؟ تقع الفرقة إذا فرغ المتلاعنان من اللعان، وهذا عند مالك.
وقال الشافعي: تقع بعد أن يكمل الزوج لعانه.
وقال أبو حنيفة، وأحمد، والثوري: لا تقع إلا بحكم الحاكم هل الفرقة طلاق أم فسخ؟
يرى جمهور العلماء أن الفرقة الحاصلة باللعان فسخ.
ويرى أبو حنيفة أنها طلاق بائن، لان سببها من جانب الرجل، ولا يتصور أو تكون من جانب المرأة، وكل فرقة كانت كذلك تكون طلاقا لا فسخا، فالفرقة هنا مثل فرقة العنين، إذا كانت بحكم الحاكم.
وأما الذين ذهبوا إلى الرأي الاول فدليلهم تأبيد التحريم، فأشبه ذات المحرم، وهؤلاء يرون أن الفسخ باللعان يمنع المرأة من استحقاقها النفقة في مدة العدة، وكذلك السكنى، لان النفقة والسكنى إنما يستحقان في عدة الطلاق لا في عدة الفسخ، ويؤيد هذا ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما في قصة الملاعنة أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى ألا قوت لها ولا سكنى: من أجل أنهما يتصرفان من غير طلاق ولا متوفى عنها ".
رواه أحمد وأبو داود.
إلحاق الولد بأمه: إذا نفى الرجل ابنه، وتم اللعان بنفيه له.
انتفى نسبه من أبيه وسقطت نفقته عنه، وانتفى التوارث بينهما، ولحق بأمه، فهي ترثه وهو يرثها، لما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ولد المتلاعنين أنه يرث أمه وترثه أمه، ومن رماها به جلد ثمانين ".
أخرجه أحمد.
ويؤيد هذا الحديث الادلة الدالة على أن الولد للفراش.
ولا فراش هنا: لنفي الزوج إياه.

وأما من رماها به اعتبر قاذفا، وجلد ثمانين جلدة، لان الملاعنة داخلة في المحصنات، ولم يثبت عليها ما يخالف ذلك، فيجب على من رماها بابنها حد القذف، ومن قذف ولدها يجب حده، كمن قذف أمه سواء بسواء.
وهذا بالنسبة للاحكام التي تلزمه.
أما بالنسبة للاحكام التي شرعها الله للكافة.
فإنه يعامل كأنه ابنه من باب الاحتياط فلا يعطيه زكاة ماله، ولو قتله لاقصاص عليه، وتثبت المحرمية بينه وبين أولاده، ولا تجوز شهادة كل منهما للاخر، ولا يعد مجهول النسب، فلا يصح أن يدعيه غيره، وإذا كذب نفسه ثبت نسب الولد منه، ويزول كل أثر للعان بالنسبة للولد.