القصاص بين الجاهلية والإسلام

" ومصدقا لما بين يدي من التوراة ".
وإلى هذا تشير الآية الكريمة: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والانف بالانف، والاذن بالاذن، والسن بالسن، والجروح قصاص " (1) ولم تفرق الشريعة بين نفس ونفس، فالقصاص حق، سواء أكان المقتول كبيرا أم صغيرا، رجلا أم امرأة.
فلكل حق الحياة، ولا يحل
التعرض لحياته بما يفسدها بأي وجه من الوجوه، وحتى في قتل الخطأ، لم يعف الله تعالى القاتل من المسئولية، وأوجب فيه: العتق، والدية، فقال سبحانه: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا، إلا خطأ، ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا " (2) .
وهذه العقوبة المالية إنما أوجبها الاسلام في القتل الخطأ احتراما للنفس حتى لا يتسرب إلى ذهن أحد هوانها، وليحتاط الناس فيما يتصل بالنفوس والدماء، ولتسد ذرائع الفساد، حتى لا يقتل أحد أحدا ويزعم أن القتل كان خطأ.
ومن شدة عناية الاسلام بحماية الانفس أنه حرم إسقاط الجنين بعد أن تدب الحياة فيه، إلا إذا كان هناك سبب حقيقي يوجب إسقاطه، كالخوف على أمه من الموت، ونحو ذلك، وأوجب في إسقاطه بغير حق غرة.
القصاص بين الجاهلية والإسلام:
قام نظام القصاص في العرب على أساس أن القبيلة كلها تعتبر مسئولة عن الجناية التي يقترفها فرد من أفرادها، إلا إذا خلعته وأعلنت ذلك في المجتمعات العامة.
ولهذا كان ولي الدم يطالب بالقصاص من الجاني وغيره من قبيلته، ويتوسع في هذه المطالبة توسعا ربما أوقد نار الحرب بين قبيلتي الجاني والمجني عليه.

(1) سورة المائدة: الآية 45.
(2) سورة النساء: الآية 92.

وقد تزداد المطالبة بالتوسع إذا كان المجني عليه شريفا أو سيدا في قومه.
على أن بعض القبائل كثيرا ما كان يهمل هذه المطالبة، ويبسط حمايته على القاتل ولا يعير أولياء المقتول أي اهتمام، فكانت تنشب الحروب التي تودي بأنفس الكثير من الابرياء.
فلما جاء الاسلام وضع حدا لهذا النظام الجائر، وأعلن أن الجاني وحده هو المسئول عن جنايته، وهو الذي يؤخذ بجريرته فقال: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى (1) الحر بالحر، والعبد بالعبد، والانثى بالانثى، فمن عفي له من أخيه شئ، فاتباع بالمعروف (2) وأداء إليه بإحسان. ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم، ولكم في القصاص حياة يأولي الالباب لعلكم تتقون ".
(3) إذا اختاروا القصاص دون العفو: قال البيضاوي في تفسير هذه الآية: " كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء، وكان لاحدهما طول على الآخر، فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد، والذكر بالانثى، فلما جاء الاسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت، وأمرهم أن يتبارأوا " انتهى.
والآية تشير إلى ما يأتي:
1 - أن الله سبحانه أبطل النظام الجاهلي، وفرض المماثلة والمساواة في القتلى.
فإذا اختاروا القصاص دون العفو، فأرادوا إنفاذه، فإن الحر يقتل إذا قتل حرا، والعبد يقتل إذا قتل عبدا مثله، والمرأة تقتل إذا قتلت امرأة.

(1) التقلى: جمع قتيل.
(2) فاتباع بالمعروف: مأخوذ من اقتصاص الاثر: أي تتبعه، لان المجني عليه يتبع الجناية، فيأخذ مثلها.
(3) سورة البقرة: الآية 178.

قال القرطبي: " وهذه الآية جاءت مبينة حكم النوع إذا قتل نوعه فبيتت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا، والانثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لاحد النوعين إذا قتل الآخر.
فالآية محكمة، وفيها إجمال يبينه قوله تعالى: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " إلى آخر الآية.
وبينه النبي صلى الله عليه وسلم لما قتل اليهودي بالمرأة. قاله مجاهد.
2 - فإذا عفا ولي الدم عن الجاني فله أن يطالبه بالدية على أن تكون المطالبة بالمعروف، لا يخالطها عنف ولا غلظة، وعلى القاتل أداء الدية إلى العافي بلا مماطلة ولابخس.
3 - وهذا الحكم الذي شرعه الله من جواز القصاص والعفو عنه إلى الدية تيسير من الله ورحمة حيث وسع الامر في ذلك، فلم يحتم واحدا منهما.
4 - فمن اعتدى على الجاني فقتله بعد العفو عنه، فله عذاب أليم، إما بقتله في الدنيا أو عذابه بالنار في الآخرة.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال: " كان في بني اسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الامة: " كتب عليكم القصاص في القتلى ... " الآية
" فمن عفي له من أخيه شئ " قال: " فالعفو " أن يقبل في العمد الدية، و " الاتباع بالمعروف " أن يتبع الطالب بمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان. " ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " فيما كتب على من كان قبلكم.
5 - وقد شرع الله القصاص لان فيه الحياة العظيمة، والبقاء للناس، فإن القاتل إذا علم أنه سيقتل ارتدع، فأحيا نفسه من جهة، وأحياء من كان يريد قتله من جهة أخرى.
6 - وقد أبقى الاسلام جعل الولاية في طلب القصاص لولي المقتول على على ما كان عليه عند العرب.

يقول الله تعالى: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا، فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ".
والمقصود بالولي هو من له القيام بالدم، وهو الوارث للمقتول (1) ، فهو الذي له حق المطالبة دون السلطة الحاكمة، فلو لم يطالب هو بالقصاص فإنه لا يقتص من الجاني.
والسلطان: التسلط على القاتل، وإنما كان ذلك كذلك مخافة أن يصدر العفو من غير رضا منه، وهوالذي اكتوى بنار الجريمة فتثور نفسه ويعمد إلى الاخذ بالثأر، ويتكرر القتل والاجرام.
7 - قال صاحب المنار معلقا على هذه الآية: فالآية الحكيمة قررت أن الحياة هي المطلوبة بالذات، وأن القصاص وسيلة من وسائلها، لان من علم أنه إذا قتل نفسا يقتل بها يرتدع عن القتل، فيحفظ الحياة على من أراد قتله وعلى نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كل
أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع.
" فإن من الناس من يبذل المال الكثير لاجل الايقاع بعدوه.
" وفي الآية من براعة العبارة وبلاغة القول ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح في العقوبة.
ويوطن النفس على قبول حكم المساواة، إذ لم يسم العقوبة قتلا أو إعداما، بل سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم " القصاص في النفس ليس كل اعتداء على النفس بموجب للقصاص، فقد يكون الاعتداء عمدا، وقد يكون شبه عمد، وقد يكون خطأ، وقد يكون غيرذلك.
ومن ثم وجب أن نبين أنواع القتل، ونبين النوع الذي يجب القصاص بمقتضاه.

(1) هذا رأي الجمهور، وقال مالك: هم العصبة.