الجهاد

الجهاد:

الجهاد مأخوذ من الجهد وهو الطاقة والمشقة، يقال: جاهد يجاهد جهادا ومجاهدة، إذا استفرغ وسعه، وبذل طاقته، وتحمل المشاق في مقاتلة العدو ومدافعته، وهوما يعبر عنه بالحرب في العرف الحديث، والحرب هي القتال المسلح بين دولتين فأكثر، وهي أمر طبيعي في البشر، لاتكاد تخلو منه أمة ولا جيل وقد أقرته الشرائع الالهية السابقة.
ففي أسفار التوراة التي يتداولها اليهود، تقرير شريعة الحرب والقتال في أبشع صورة من صور التخريب والتدمير والاهلاك والسبي.
فقد جاء في سفر التثنية في الاصحاح العشرين عدد 10 ومابعده، ما يأتي نصه: " حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك بالتسخير، ويستعبد لك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حربا، فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء، والاطفال، والبهائم، وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا، التي ليست من مدن هؤلاء الامم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريما - الحثيين والاموريين، والكنعانيين، والفرزيين، والحويين، واليوسيين، كما أمرك
الرب إلهك ".
وفي إنجيل متى المتداول بأيدي المسيحيين، في الاصحاح العاشر عدد 24 وما بعده يقول: " لا تظنوا أني جئت لالقي سلاما على الارض، ما جئت لالقي سلاما، بل سيفا، فإنني جئت لافرق الانسان ضد أبيه والابنة ضد أمها، والكنة ضد

حماتها، وأعداء الانسان أهل بيته، من أحب أبا أو أما أكثر مني، فلا يستحقني، ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني، فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني، فلا يستحقني، ومن وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها ".
والقانون الدولي أقر الظروف والاحوال التي تشرع فيها الحرب، ووضع لها القواعد، والمبادئ، والنظم، التي تخفف من شرورها وويلاتها، وإن كان لم يتم شئ من ذلك عند التطبيق.
تشريع الجهاد في الاسلام أرسل الله رسوله إلى الناس جميعا، وأمره أن يدعو إلى الهدى ودين الحق ولبث في مكة يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وكان لابد من أن يلقى مناوأة من قومه الذين رأوا أن الدعوة الجديدة خطر على كيانهم المادي والادبي.
فكان توجيه الله له أن يلقى هذه المناوأة بالصبر، والعفو، والصفح الجميل.
" واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ". (1) " فاصفح عنهم، وقل سلام، فسوف يعلمون ". (2) " فاصفح الصفح الجميل ". (3) " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ". (4) ولم يأذن الله بأن يقابل السيئة بالسيئة، أو يواجه الاذى بالاذى، أو يحارب الذين حاربوا الدعوة، أن يقاتل الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات. " ادفع بالتي هي أحسن السيئة، نحن أعلم بما يصفون ". (5)

(1) سورة الطور: الآية 48.
(2) سورة الزخرف: الآية 89.
(3) سورة الحجر: الآية 85.
(4) سورة الجاثية: الآية 14.
(5) سورة المؤمنون: الآية 96.

وكل ما أمر به جهادا في هذه الفترة أن يجاهد بالقرآن، والحجة، والبرهان. " وجاهدهم جهادا كبيرا ".
(1) ولما اشتد الاذى، وتتابع الاضطهاد حتى وصل قمته بتدبير مؤامرة لاغتيال الرسول الكريم، اضطر أن يهاجر من مكة إلى المدينة، ويأمر أصحاب بالهجرة إليها بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة.
" وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ".
(2) " إلا تنصروه، فقد نصره الله ".
(3) وفي المدينة - عاصمة الاسلام الجديدة - تقرر الاذن بالقتال حين أطبق عليهم الاعداء، واضطروا إلى امتشاق الحسام، دفاعا عن النفس، وتأمينا للدعوة.
وكان أول آية نزلت قول الله سبحانه: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير.
الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله - ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز - الذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور ".
(4) وفي هذه الآيات تعليل للاذن بالقتال بأمور ثلاثة:
1 - انهم ظلموا بالاعتداء عليهم، وإخراجهم من ديارهم بغير حق إلا أن يدينوا دين الحق، ويقولوا: ربنا الله.
2 - انه لولا إذن الله للناس بمثل هذا الدفاع، لهدمت جميع المعابد التي يذكر فيها اسم الله كثيرا، بسبب ظلم الكافرين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.

(1) سورة الفرقان: الآية 53.
(2) سورة الانفال: الآية 30.
(3) سورة التوبة: الآية 40.
(4) سورة الحج: الآية 39، 40، 41.

3 - ان غاية النصر، والتمكين في الارض، والحكم: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ايجابه وفي السنة الثانية من الهجرة، فرض الله القتال، وأوجبه بقوله تعالى:
" كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ". (1)
الجهاد فرض كفاية (2) : والجهاد ليس فرضا على كل فرد من المسلمين، وإنما هو فرض على الكفاية إذا قام به البعض، واندفع به العدو، وحصل به الغناء، سقط عن الباقين.
(2) من الفرائض ما يجب على كل فرد أن يقوم به ولا يسقط بإقامة البعض له، مثل: الايمان، والطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. فهذه فرائض عينية، يلزم كل فرد أداؤها، ولا يحل له أن يقصر فيها.
ومن الفرائض ما يجب على بعض الناس دون البعض الآخر، وتسمى هذه الفرائض بفروض الكفاية وهي أنواع: 1 - النوع الاول ديني، مثل: العلم، والتعلم، وحكم الشبهات، والرد على الشكوك التي تثار حول الاسلام، وصلاة الجنازة، وإقامة الجماعة، والآذان، ونحو ذلك.
2 - والنوع الثاني ما يتصل بإصلاح النظام المعيشي، مثل: الزراعة، والصناعة، والطب، ونحو ذلك من الحرف التي يضر تعطيلها أمر الدين والدنيا.
3 - والنوع الثالث من الفروض الكفائية ما يشترط فيه الحاكم، مثل: الجهاد، وإقامة الحدود فإن هذه من حق الحاكم وحده، وليس لاي فرد أن يقيم الحد على غيره.
4 - والنوع الرابع ما لا يشترط فيه الحاكم، مثل: الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الفضائل، ومطاردة الرذائل.
فهذه الفروض الكفائية لا تجب على كل فرد، وإنما الواجب أن ينهض بها بعض الافراد، فإذا قاموا بها، وحصلت بهم الكفاية، سقط الوجوب عن الافراد جميعا. وإذا لم يقوموا بها، أثموا جميعا.

(1) سورة البقرة: الآية 216.

يقول الله تعالى: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
" (1) وقال سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ".
(2) وفي البخاري " ويذكر عن ابن عباس " انفروا ثبات ": سرايا متفرقين.
وقال سبحانه: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة كلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ".
(3) وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث بعثا إلى بني لحيان - من هذيل - فقال: " لينبعث من كل رجلين أحدهما، والاجر بينهما ".
ولانه لو وجب على الكل لفسدت مصالح الناس الدنيوية، فوجب أن لا يقوم به إلا البعض.
متى يكون الجهاد فرض عين؟ ولايكون الجهاد فرض عين إلا في الصور الآتية:
1 - أن يحضر المكلف صف القتال، فإن الجهاد يتعين في هذه الحال.
يقول الله سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ". (4)

(1) سورة التوبة: الآية 122.
(2) سورة النساء: الآية 71. والنفير: الخروج لقتال الكفار.
(3) سورة النساء: الآية 95.
(4) سورة الانفال: الآية 45

ويقول الله تبارك وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار ".
(1) 2 - إذا حضر العدو المكان أو البلد الذي يقيم به المسلمون، فإنه يجب على أهل البلد جميعا أن يخرجوا لقتاله، ولا يحل لاحد أن يتخلى عن القيام بواجبه نحو مقاتلته إذا كان لا يمكن دفعه إلا بتكتلهم عامة، ومناجزتهم إياه.
يقول الله سبحانه وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ".
(2) 3 - إذا استنفر الحاكم أحدا من المكلفين، فإنه لا يسعه أن يتخلى عن الاستجابة إليه.
لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لاهجرة بعد الفتح، ولكن جهادونية، وإذا استنفرتم فانفروا " (3) رواه البخاري.
أي إذا طلب منكم الخروج إلى الحرب فاخرجوا.
يقول الله سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الارض أرضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ".
(4) على من يجب؟ يجب الجهاد على المسلم، الذكر، العاقل، البالغ، الصحيح، الذي يجد من المال ما يكفيه ويكفي أهله حتى يفرغ من الجهاد.
فلا يجب على غير المسلم، ولا على المرأة، ولا على الصبي، ولا على المجنون، ولا على المريض، فلا حرج على واحد من هؤلاء في التخلف عن

(1) سورة الانفال: الآية 15.
(2) سورة التوبة: الآية 123.
(3) أي لاهجرة من مكة إلى المدينة بعد فتح مكة، وكانت هذه الهجرة فرضا في أول الاسلام فنسخت بهذا الحديث.
أما الهجرة من دار الحرب إلى الاسلام فهي لم تنسخ، بل هي مفروضة على من لا يأمن فيها على دينه.
(4) سورة التوبة: الآية 38.

الجهاد، لان ضعفهم يحول بينهم وبين الكفاح، وليس لهم غناء يعتد به في الميدان.
وربما كان وجودهم أكثر ضررا، مع قلة نفعه.
وفي هذا يقول الله سبحانه: " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ".
(1) ويقول الله تبارك وتعالى: " ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولاعلى المريض حرج ".
(2) وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: " عرضت على رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ".
رواه: البخاري ومسلم.
ولانه عبادة، فلا يجب إلا على بالغ.
روى أحمد، والبخاري، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: " قلت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟..قال: جهاد لاقتال فيه: الحج والعمرة ".
وفي رواية: لكن أفضل الجهاد حج مبرور.
وروى الواحدي، والسيوطي، في " الدر المنثور " عن مجاهد، قال: " قالت أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث؟! ".
فأنزل الله تعالى: " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما ".
(3) ورويا عن عكرمة أن النساء سألن الجهاد، فقلن:

(1) سورة التوبة: الآية 91.
(2) سورة الفتح: الآية 17.
(3) سورة النساء: الآية 32، أي أنه للرجال عمل خاص بهم، كلفوا به، وللنساء عمل خاص بهن، كلفن به، فلا يصح أن يتمنى كل من الفريقين عمل الآخر.

" وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الاجر ما يصيب الرجال "، فنزلت الآية.
وهذا لايمنع من خروجهن للتمريض ونحوه.
عن أنس رضي الله عنه قال: " لما كان يوم أحد، انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكرو أم سليم وإنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما (1) تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفر غانها في أفواه القوم ".
رواه الشيخان.
وعنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الانصار معه، فيسقين الماء، ويداوين الجرحى ".
رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي.
اذن الوالدين الجهاد الواجب لا يعتبر فيه إذن الوالدين.
أما جهاد التطوع، فإنه لابد فيه من إذن الوالدين المسلمين الحرين، أو إذن أحدهما.
قال ابن مسعود: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها.
قلت: ثم أي: قال: بر الوالدين.
قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله ".
رواه البخاري، ومسلم.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه في الجهاد.
فقال: أحي والداك؟ قال: نعم؟ قال: ففيهما فجاهد ".
رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي، والترمذي وصححه.
وفي كتاب شرعة الاسلام: " ولا يخرج إلى الجهاد إلامن كان فارغا عن الاهل والاطفال وعن خدمة الوالدين، فإن ذلك مقدم على الجهاد، بل هو أفضل الجهاد ".

(1) أي الخلاخل في سوقهما، وسمي الخلخال خدمة بفتحتين، لانه ربما كان من سيور مركب
فيها ذهب وفضة، والخدمة في الاصل السير، والخدم موضع الخلخال من الساق.

اذن الدائن وكذلك لا يتطوع به مدين لا وفاء له إلا مع إذن، أو وهن محرز، أو كفيل ملئ.
فعند أحمد، ومسلم، من حديث أبي قتادة: أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإن جبريل قال لي ذلك ".
الاستعانة بالفجرة والكفرة على الغزو يجوز الاستعانة بالمنافقين، والفسقة، على قتال الكفرة، وقد كان عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين يخرجون للقتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقصة أبي محجن الثقفي - الذي كان يدمن شرب الخمر - وبلاؤه في حرب فارس مشهورة.
وأما قتال الكفرة مع المسلمين فاختلفت فيها آراء الفقهاء: فقال مالك وأحمد: " لا يجوز أن يستعان بهم، ولا أن يعاونوا على الاطلاق ".
قال مالك: " إلا أن يكونوا خداما للمسلمين، فيجوز ".
وقال أبو حنيفة: " يستعان بهم، ويعاونون على الاطلاق، الاسلام هو الغالب الجاري عليهم، فإن كان حكم الشرك هو الغالب كره ".
وقال الشافعي: يجوز ذلك بشرطين:
(أحدهما) أن يكون بالمسلمين قلة ويكون بالمشركين كثرة.
(والثاني) أن يعلم من المشركين حسن رأي في الاسلام وميل إليه.
ومتى استعان بهم رضخ لهم ولم يسهم: أي أعطاهم مكافأة ولم يشركهم في سهام المسلمين من الغنيمة.