نتيجة البحث: تفسير الآية و صورتها و تلاوتها


سورة البقرة آية 143
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ

التفسير الميسر وكما هديناكم -أيها المسلمون- إلى الطريق الصحيح في الدين، جعلناكم أمة خيارًا عدولا لتشهدوا على الأمم في الآخرة أن رسلهم بلَّغتهم رسالات ربهم، ويكون الرسول في الآخرة كذلك شهيدًا عليكم أنَّه بلَّغكم رسالة ربه. وما جعلنا -أيها الرسول- قبلة "بيت المقدس" التي كنت عليها، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة بـ "مكة"، إلا ليظهر ما علمناه في الأزل؛ علما يتعلق به الثواب والعقاب لنميز مَن يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيث توجهت، ومَن هو ضعيف الإيمان فينقلب مرتدًا عن دينه لشكه ونفاقه. وإن هذه الحال التي هي تحول المسلم في صلاته من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة لثقيلة شاقة إلا على الذين هداهم ومنّ عليهم بالإيمان والتقوى وما كان الله ليضيع إيمانكم به واتباعكم لرسوله، ويبطل صلاتكم إلى القبلة السابقة. إنه سبحانه وتعالى بالناس لرءوف رحيم.

تفسير الجلالين
143 - (وكذلك) كما هديناكم إليه (جعلناكم) يا أمة محمد (أمة وسطا) خياراً عدولاً (لتكونوا شهداء على الناس) يوم القيامة أن رسلهم بلغتهم (ويكون الرسول عليكم شهيدا) أنه بلغكم (وما جعلنا) صيرنا (القبلة) لك الآن الجهة (التي كنت عليها) أولا وهي الكعبة وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إليها فلما هاجر أمر باستقبال بيت المقدس تألفا لليهود فصلى إليه ستة أو سبعة عشر شهرا ثم حول (إلا لنعلم) علم ظهور (من يتبع الرسول) فيصدقه (ممن ينقلب على عقبيه) أي يرجع إلى الكفر شكا في الدين وظنا أن النبي صلى الله عليه وسلم في حيرة من أمره وقد ارتد لذلك جماعة (وإن) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي: وإنها (كانت) أي التولية إليها (لكبيرة) شاقة على الناس (إلا على الذين هدى الله) منهم (وما كان الله ليضيع إيمانكم) أي صلاتكم إلى بيت المقدس بل يثيبكم عليه لأن سبب نزولها السؤال عمن مات قبل التحويل (إن الله بالناس) المؤمنين (لرؤوف رحيم) في عدم إضاعة أعمالهم ، والرأفة شدة الرحمة وقدم الأبلغ للفاصلة

تفسير القرطبي
فيه أربع مسائل: الأول: قوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} المعنى : وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا، أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم.
والوسط : العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها.
وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى{وكذلك جعلناكم أمة وسطا } قال : (عدلا).
قال : هذا حديث حسن صحيح.
وفي التنزيل {قال أوسطهم} [القلم : 28] أي أعدلهم وخيرهم.
وقال زهير : هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ** إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم آخر : أنتم أوسط حي علموا ** بصغير الأمر أو إحدى الكبر وقال آخر : لا تذهبن في الأمور فرطا ** لا تسألن إن سألت شططا وكن من الناس جميعا وسطا ووسط الوادي : خير موضع فيه وأكثره كلأ وماء.
ولما كان الوسط مجانبا للغلو والتقصير كان محمودا، أي هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم.
وفي الحديث : (خير الأمور أوسطها).
وفيه عن علي رضي الله عنه (عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل) وفلان من أوسط قومه، وإنه لواسطة قومه، ووسط قومه، أي من خيارهم وأهل الحسب منهم.
وقد وسط وساطة وسطة، وليس من الوسط الذي بين شيئين في شيء.
والوسط بسكون السين الظرف، تقول : صليت وسط القوم.
وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم.
قال الجوهري : وكل موضع صلح فيه بين فهو وسط، وإن لم يصلح فيه بين فهو وسط بالتحريك، وربما يسكن وليس بالوجه.
الثانية: قوله تعالى{لتكونوا} نصب بلام كي، أي لأن تكونوا.
{شهداء} خبر كان.
{على الناس} أي في المحشر للأنبياء على أممهم، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا فذلك قوله عز وجل{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.
.
.
}.
وذكر هذا الحديث مطولا ابن المبارك بمعناه، وفيه : (فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول لهم الرب سبحانه كيف تشهدون على من لم تدركوا فيقولون ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك وقصصت علينا أنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا فيقول الرب صدقوا فذلك قوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا - والوسط العدل - لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).
قال ابن أنعم : فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد عليه السلام، إلا من كان في قلبه إحْنَة على أخيه.
وقالت طائفة : معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين مرت به جنازة فأثني عليها خير فقال : (وجبت وجبت وجبت).
ثم مر عليه بأخرى فأثني عليها شر فقال : (وجبت وجبت وجبت).
فقال عمر : فدى لك أبي وأمي، مُرَّ بجنازة فأثني عليها خير فقلت : (وجبت وجبت وجبت) ومُرّ بجنازة فأثني عليها شر فقلت : (وجبت وجبت وجبت)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض).
أخرجه البخاري بمعناه.
وفي بعض طرقه في غير الصحيحين وتلا {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}.
وروى أبان وليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان الله إذا بعث نبيا قال له ادعني استجب لك وقال لهذه الأمة ادعوني استجب لكم وكان الله إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة وما جعل عليكم في الدين من حرج وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس).
خرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله في نوادر الأصول الثالثة: قال علماؤنا : أنبأنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولا مكانا وإن كنا آخرا زمانا، كما قال عليه السلام : (نحن الآخرون الأولون).
وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا.
وسيأتي بيان العدالة وحكمها في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
الرابعة: وفيه دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به، لأنهم إذا كانوا عدولا شهدوا على الناس.
فكل عصر شهيد على من بعده، فقول الصحابة حجة وشاهد على التابعين، وقول التابعين على من بعدهم.
وإذ جعلت الأمة شهداء فقد وجب قبول قولهم.
ولا معنى لقول من قال : أريد به جميع الأمة، لأنه حينئذ لا يثبت مجمع عليه إلى قيام الساعة.
وبيان هذا في كتب أصول الفقه.
قوله تعالى {ويكون الرسول عليكم شهيدا} قيل : معناه بأعمالكم يوم القيامة.
وقيل{عليكم} بمعنى لكم، أي يشهد لكم بالإيمان.
وقيل : أي يشهد عليكم بالتبليغ لكم.
قوله تعالى{وما جعلنا القبلة التي كنت عليها} قيل : المراد بالقبلة هنا القبلة الأولى، لقوله {كنت عليها}.
وقيل : الثانية، فتكون الكاف زائدة، أي أنت الآن عليها، كما تقدم، وكما قال{كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران : 110] أي أنتم، في قول بعضهم، وسيأتي.
قوله تعالى {إلا لنعلم من يتبع الرسول} قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : معنى {لنعلم} لنرى.
والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله تعالى{ألم تر كيف فعل ربك} [الفيل : 1] بمعنى ألم تعلم.
وقيل : المعنى إلا لتعلموا أننا نعلم، فإن المنافقين كانوا في شك من علم الله تعالى بالأشياء قبل كونها.
وقيل : المعنى لنميز أهل اليقين من أهل الشك، حكاه ابن فورك، وذكره الطبري عن ابن عباس.
وقيل : المعنى إلا ليعلم النبي واتباعه، وأخبر تعالى بذلك عن نفسه، كما يقال : فعل الأمير كذا، وإنما فعله اتباعه، ذكره المهدوي وهو جيد.
وقيل : معناه ليعلم محمد، فأضاف علمه إلى نفسه تعالى تخصيصا وتفضيلا، كما كنى عن نفسه سبحانه في قوله : (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني) الحديث.
والأول أظهر، وأن معناه علم المعاينة الذي يوجب الجزاء، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة، علم ما يكون قبل أن يكون، تختلف الأحوال على المعلومات وعلمه لا يختلف بل يتعلق بالكل تعلقا واحدا.
وهكذا كل ما ورد في الكتاب من هذا المعنى من قوله تعالى{وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء} [آل عمران:140]، {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين} [محمد : 31] وما أشبه.
والآية جواب لقريش في قولهم{ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها}[البقرة :142] وكانت قريش تألف الكعبة، فأراد الله عز وجل أن يمتحنهم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه.
وقرأ الزهري {إلا ليعلم} {فمن} في موضع رفع على هذه القراءة، لأنها اسم ما لم يسم فاعله.
وعلى قراءة الجماعة في موضع نصب على المفعول.
{يتبع الرسول} يعني فيما أمر به من استقبال الكعبة.
{ممن ينقلب على عقبيه} يعني ممن يرتد عن دينه، لأن القبلة لما حولت ارتد من المسلمين قوم ونافق قوم، ولهذا قال{وإن كانت لكبيرة} أي تحويلها، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة.
والتقدير في العربية : وإن كانت التحويلة.
قوله تعالى{وإن كانت لكبيرة} ذهب الفراء إلى أن {إن} واللام بمعنى ما وإلا، والبصريون يقولون : هي إن الثقيلة خففت.
وقال الأخفش : أي وإن كانت القبلة أو التحويلة أو التولية لكبيرة.
{إلا على الذين هدى الله} أي خالق الهدى الذي هو الإيمان في قلوبهم، كما قال تعالى{أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} [المجادلة :22].
قوله تعالى{وما كان الله ليضيع إيمانكم} اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، كما ثبت في البخاري من حديث البراء بن عازب، على ما تقدم.
وخرج الترمذي عن ابن عباس قال : لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا : يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى{وما كان الله ليضيع إيمانكم} الآية، قال : هذا حديث حسن صحيح.
سمى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نية وقول وعمل.
وقال مالك : إني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة : إن الصلاة ليست من الإيمان.
وقال محمد بن إسحاق{وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي بالتوجه إلى القبلة وتصديقكم لنبيكم، وعلى هذا معظم المسلمين والأصوليين.
وروى ابن وهب وابن القاسم وابن عبدالحكم وأشهب عن مالك {وما كان الله ليضيع إيمانكم} قال : صلاتكم.
قوله تعالى {إن الله بالناس لرؤوف رحيم} الرأفة أشد من الرحمة.
وقال أبو عمرو بن العلاء : الرأفة أكثر من الرحمة، والمعنى متقارب.
وقد أتينا على لغته وأشعاره ومعانيه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى فلينظر هناك.
وقرأ الكوفيون وأبو عمرو {لرؤف} على وزن فعل، وهي لغة بني أسد، ومنه قول الوليد بن عقبة : وشر الطالبين فلا تكنه ** يقاتل عمه الرؤف الرحيم وحكى الكسائي أن لغة بني أسد {لرأف}، على فعل.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع {لروف} مثقلا بغير همز، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله تعالى، ساكنة كانت أو متحركة.

تفسير ابن كثير قيل: المراد بالسفهاء ههنا مشركو العرب قاله الزجاج، وقيل: أحبار يهود قاله مجاهد، وقيل: المنافقون قاله السُّدي، والآية عامة في هؤلاء كلهم، واللّه أعلم. عن البراء رضي اللّه عنه: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد باللّه لقد صليت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم قِبَل مكة، فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قِبَل البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل اللّه: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم } ""رواه البخاري وأخرجه مسلم من وجه آخر"" وعن البراء قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر اللّه، فأنزل اللّه: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شرط المسجد الحرام} فقال رجال من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نُصْرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم} وقال السفهاء من الناس - وهم أهل الكتاب - ما ولاَّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل اللّه: {سيقول السفهاء من الناس} ""رواه ابن أبي حاتم""إلى آخر الآية. وعن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بضعة عشر شهراً. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {فولوا وجوهكم شطره} أي نحوه، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل اللّه: {قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }""رواه ابن أبي حاتم ""وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة وحاصل الأمر: أنه قد كان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم أُمِر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يصلي بين الركنين فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره اللّه بالتوجه إلى بيت المقدس قاله ابن عباس والجمهور. والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى اللّه عليه وسلم المدينة واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهراً، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يُوَجَّه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام، فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق، فخطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس فأعلمهم بذلك، وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر كما تقدم في الصحيحين. وذكر غير واحد من المفسِّرين أن تحويل القبلة نزل على رسول اللّه وقد صلى ركعتين من الظهر وذلك في مسجد بني سلمة: فسمي مسجد القبلتين وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه قال: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذا جاءهم آت فقال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أُنْزِل عليه الليلة قرآن وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة) ""أخرجه الشيخان عن ابن عمر""ولما وقع هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتيابٌ وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك، وقالو: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} أي قالوا: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله: {قل لله المشرق والمغرب} أي الحكم والتصرف والأمر كله للّه، {فأينما تولوا فثم وجه الله} أي الشأن، كله في امتثال أوامر اللّه، فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مراتٍ إلى جهات متعددة فنحن عبيده، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات اللّه وسلامه عليه وأُمته عناية عظيمة، إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن، وجعل توجههم إلى الكعبة أشرف بيوت اللّه في الأرض، إذ هي بناء إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا قال: {قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}. عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعني في أهل الكتاب: (إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا اللّه لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا اللّه لها، وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين ""رواه الإمام أحمد عن عائشة مرفوعاً"") وقوله تعالى: {كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}، يقول تعالى إنما حولناكم على قبلة إبراهيم عليه السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأُمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم، لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسطُ ههنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي خيرها، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسطاً في قومه، أي أشرفهم نسباً، ومنه الصلاة الوسطى وهي العصر، ولما جعل اللّه هذه الأمة وسطاً خصَّها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال تعالى: {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرَج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس}. عن أبي سعيد قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلَّغت؟ فيقول نعم، فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم؟ فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول محمد وأمته، قال فذلك قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} قال: والوسط العدل فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم ""رواه البخاري والترمذي والنسائي"") وعن أبي سعيد الخدري قال: قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :(يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعي قومه فيقال: هل بلَّغكم هذا؟ فيقولون: لا فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول نعم: فيقال من يشهد لك، فيقول محمد وأمته فيدعى محمد وأمته: فيقال لهم هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون نعم. فيقال وما علمكم؟ فيقولون جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله عزّ وجلّ: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} قال عدلاً {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} ""رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً"") عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (أنا وأُمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد إلا ودَّ أنه منا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عزّ وجلّ) ""رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله"". وقوله تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله}، يقول تعالى إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه، أي مرتداً عن دينه {وإن كانت لكبيرة} أي هذه الفعلة وهي صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس، إلا على الذين هدى اللّه قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن اللّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا، كما يحصل للذين آمنوا إيقانٌ وتصديق، كما قال اللّه تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول: أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم} وقال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى}. وقال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا}، ولهذا كان - من ثبت على تصديق الرسول صلى اللّه عليه وسلم واتباعه في ذلك، وتوجه حيث أمره اللّه من غير شك ولا ريب - من سادات الصحابة، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا إلى القبلتين. عن ابن عمر قال: (بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال: قد أنزل على النبي صلى اللّه عليه وسلم قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فتوجهوا إلى الكعبة) ""رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر""وفي رواية أنهم كانوا ركوعاً فاستداروا كما هم إلى الكعبة وهم ركوع، وهذا يدل على كمال طاعتهم للّه ولرسوله وانقيادهم لأوامر اللّه عزّ وجلّ رضي اللّه عنهم أجمعين. وقوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك، ما كان يضيع ثوابها عند اللّه، وفي الصحيح عن البراء قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فقال الناس: ما حالهم في ذلك؟ فأنزل اللّه تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} ""رواه الترمذي عن ابن عباس وصححه""، وقال ابن إسحاق عن ابن عباس: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم} أي بالقبلة الأولى وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأُخرى، أي ليعطيكم أجرهما جميعاً {إن اللّه بالناس لرءوف رحيم} وقال الحسن البصري: وما كان الله ليضيع إيمانكم: أي ما كان اللّه ليضيع محمداً صلى اللّه عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف {إن الله بالناس لرءوف رحيم} وفي الصحيح أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليه وألقمته ثديها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه)؟ قالوا: لا يا رسول اللّه. قال: (فواللّهِ، للُّه أرحمُ بعباده من هذه بولدها).

ِترجمة معني الآية

ِاردو | Espanol | Française | English | Malaysian | Indonesian | বাঙালি